[center]الكثير من الحب(مسرور ومقرور)
بقلم د. أيمن الجندى ١٥/ ٤/ ٢٠١١
(اعتدت أن أنشر قصة عاطفية يوم الجمعة، لكن جلال اللحظة الكونية التى تعيشها مصر الآن دفعنى أن أُلخّص هذه الرواية التى كتبها «أحمد بهجت» على قدر ما تسمح به مساحة المقال).
..........
مسرور ومقرور. مسرور حاكم المدينة وأغنى رجل فيها، ومقرور العابد الزاهد، الذى يسكن فى كوخ حقير. فى الأصل كان قاطعا للطريق ثم قابل نبياً فتاب على يديه. لا تكف دموعه عن الانهمار كلما تذكر خطاياه القديمة وسؤال حائر يعذبه: «هل قبل الله توبتى أم لا؟».
تبدأ القصة حين يسمع مسرور حاكم المدينة عن مقرور الذى يدعو لعبادة الله الواحد، فيستشعر الخطر على نظام المملكة ويقرر قتله. يصدر الأمر بإعدامه فيشعر مقرور بالسرور. إن قتله لا يعنى له سوى شىء واحد: أنه سيموت شهيدا، وهذا يعنى أن الله غفر ذنوبه التى ارتكبها حينما كان قاطع طريق.
سِيق مقرور إلى السجن، وعاد مسرور إلى غرفته فشاهد زائرا غريبا لم يره من قبل، تحمل ملامحه الويل. لم يسمع أحد الحوار الذى دار بينهما وإنما شاهدوا زجاجة الخمر تسقط من يده. أحس فجأة بألم فى صدره كحزام نار ثم وقع على الأرض. كشف ملك الموت عن وجهه فدخل مسرور فى غمرات الموت. أحس بأن روحه تُسحب من قدمه مثلما يُسحب الشوك من صوف، وبدأ ملك الموت يضرب وجهه. فى الضربة الثانية كانت الروح تتلجلج فى فم مسرور.
...........
فى هذه اللحظة كان مقرور مقيداً فى عمود خشبى فى محرقة أُشعلت لإعدامه. فُوجئ بظهور كائن غريب يقول له: «لا تخف، أنا مَلَك الموت، لن تموت حرقا بل سينتهى أجلك قبل أن تصل إليك هذه النار». سأله مقرور فى لهفة: «هل قبل الله توبتى؟».
لم يجبه المَلَك، ولكن حواسه استقبلت عبق الريحان. تهاوى ميتـــا وهو يتأمل جمال وجه الملك الكريم. دُفن مسرور ودُفن مقرور وأُغلق عليهما القبر إلى الأبد. بمجرد أن أغلق الحرّاس الباب ارتد إليهما إحساسهما معا. مسرور كان مذهولا لما حدث. كان يتصور أن الموت هو نهاية الإحساس وها هو الآن يكتشف أنه يرى ويحس. انطبقت عليه الجدران فصرخ صرخة هائلة ارتعشت لها البهائم، فوجئ بملكين فى قبره يجلسانه ويسألانه: «من ربك؟».
فوجئ بالسؤال، لم يحاول من قبل أن يفكر فى قضية الخلق، وإذا تبادر السؤال إلى ذهنه أقصاه على الفور. فى الحق لم يدر بماذا يجيب.
وعاد الملك يسأله: «ما دينك؟ من نبيك؟». لم يرد بشىء وإنما عقد الخوف لسانه. نظر أمامه فشاهد بؤرة جحيمية من النار المشتعلة فتجمد دمه من الرعب.
أما مقرور فقد اختلف الأمر معه تماما. سألوه فى ود وكأنهم يتوقعون إجابته. قال: «ربى الله خالق كل شىء، أنا على دين جميع الأنبياء. مسلم أنا». ابتسم الملكان وقالا: «انظر أمامك». نظر فرأى حديقة خضراء وقصراً عظيماً. قال الملَك ووجهه يزداد نورا: «هذا أحد قصورك فى الجنة». سأله مقرور فى لهفة: «هل معنى هذا أن الله قبل توبتى؟». لم يجبه المَلَك وقال: «عد إلى الموت بأمر الله».
.............
مر عام، مائة عام، ألف عام. بليت الأجساد فى قبورها وامتدت المدينة إلى المقابر فصارت القبور مساكن، ثم بليت المساكن وعادت قبورا. تعاقبت دورة الحياة عدة مرات، حتى أمر الله بالنفخ فى الصُور فصعق من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله. خلت الأرض من سكانها فلا صوت يُسمع ولا كائن يدب ولا طائر يطير. ماتت الخلائق وبقى رب الخلائق، منفردا بجلاله، مستعليا بأنواره، قائما بنفسه، مستغنيا بذاته عمن سواه.
ثم شاء الله تعالى أن يُنفخ فى الصُور مرة أخرى ويبعث الخلق ليبدأ أطول يوم فى تاريخ الكون: يوم القيامة.
..............
صدر الأمر إلى الموتى أن يقوموا من قبورهم. أطاعوا جميعا ونهضوا من الموت ومن بينهم مسرور ومقرور. ارتعش مسرور بخوف مفاجئ، لاحظ آلاف الموتى يقومون فى اتجاه الأرض، تساءل: «أين قصرى؟ أين خدمى وجنودى؟»، سارا متجاورين يتأملان ما حولهما. الأرض ممتلئة بالخارجين من القبور فوجاً بعد فوج. البحر يصبح نارا. الجبال بدأت تتفتت، والأرض تميد والبشر يرتعشون من الهول، والوحوش تركض.
هوى الكون ساجدا لله الواحد القهار، اقتربت الشمس من الأرض، واشتدت الحرارة، نُصبت الموازين للخلق. وبدأ الناس يتلقون كتاب أعمالهم. تلقى مسرور كتابه وراء ظهره، يعرض بالصوت والصورة دقائق حياته. عاش مشغولا بالذهب والسلطة. شاهد نفسه وهو يرتكب الجرائم. رأى نفسه يقتل ويظلم ويزنى ويسرق، كره نفسه بعد أن تجسدت صورتها الحقيقية أمام عينيه.
بدأت محاكمة مسرور. حملته الملائكة حتى انتهوا به إلى عرش الرحمن فأوقفوه فى حجاب الخوف. حاكمه الله تعالى دون أن يكلمه أو ينظر إليه. قال: «ألم أخلقك وأحسن إليك؟ كيف بارزتنى بالمعاصى وتجرأت علىّ؟». خرس لسان مسرور وتكلمت جوارحه، فوجئ بأن عقله يتكلم وقلبه يعترف وجلده يشهد عليه. طالت وقفته فأيقن أنه هالك.
...........
وأعطت الملائكة مقرور كتابه بيمينه. فتحه وراح يبحث عن سيئاته أيام كان قاطعاً للطريق فلم ير إلا الحسنات. أوقفته الملائكة تحت ظل العرش. قال له ربه الكريم: «تكلم يا عبد حتى أسمع». قال مقرور: «سبحانك ربنا، تباركت وتعاليت. أنا عبدك الذليل فلا يعلم مقدار ذلى إلا أنت، وأنا عبدك الفقير فلا يعلم مقدار فقرى إلا أنت، وأنا عبدك الضعيف فلا يعلم مقدار ضعفى إلا أنت. أنا الذليل بى وأنا العزيز بك، وأنا الفقير بى وأنا الغنىّ بك، وأنا الضعيف بى وأنا القوىّ بك. جئتك بذنوبى وخطاياى ولكنى لا أجدها فى كتابى».
قال الحق عز وجل: «سترتها عليك فى الدنيا واليوم أغفرها لك. احملوه إلى الجنة».
خر مقرور ساجدا وهو يبكى حباً فى الله وحياء منه.[/center]