[center]كلنا بنحبك يامصرمحمد وحنا بميدان التحرير
بقلم د. عمار على حسن ١/ ٣/ ٢٠١١
محمد وحنا. صلاة الجمعة وقداس الأحد. الهلال والصليب. مصر الطبيعية والحقيقية بعيدا عن موجة التعصب والتطرف والاحتقان الطائفى، التى صنعتها السلطة، وربتها فى معامل الحزب الوطنى المتداعى. مصر بعد أن تخلصت من أوحال الاستبداد والفساد، التى لحقت بثوبها المغزول بأصابع تاريخ عريق.
قبل ساعات من انطلاق ثورة ٢٥ يناير كانت الحالة الدينية فى بلدنا العظيم تعرض على سطح الأحداث أسوأ ما فيها، حيث ضيق الأفق، وحرج الصدور، وانغلاق الأذهان، واحتقان النفوس. فالغضب الشديد كان سائدا بعيد حادث تفجير كنيسة القديسين بمدينة الإسكندرية، الذى استشهد فيه ستة وعشرون مصريا، والإعلام الرسمى كان يسوق الرأى العام فى اتجاه يقول إن مصر دخلت ضمن «حزام القاعدة»، بعد اتهام ما يسمى «جيش الإسلام» فى غزة بأنه وراء الحادث. على التوازى كان الإخوان المسلمون يكظمون غيظهم، ويكبحون جماح أنفسهم، حتى لا ينفجروا فى وجه النظام منزلقين إلى عنف مادى فارقوه منذ عقود. والتيار السلفى الدعوى كان يشحن المجال العام بحديث عن تدلل الكنيسة على الدولة المصرية، والمسلمون جميعا كان يحاولون تناسى إساءة أحد الأساقفة إلى الإسلام، بينما كان المسيحيون مستائين من اتهامات تدعى أن الكنائس تحولت إلى مخازن أسلحة.
كان عقلاء المصريين يستدعون فى لحظات الحزن من «الاحتقان الطائفى» تجربة ثورة ١٩١٩، التى تعانق فيها الهلال والصليب، ويشعر كثيرون منهم بأنها تبدو فى وقتنا هذا «صرحا من خيال فهوى». لكن كل شىء استعاد عافيته فى زمن يسير، وفترة مدهشة من تاريخ مصر، عاد فيها الهلال والصليب إلى التعانق، وأقيمت «صلاة الجمعة» فى مكان أقيم فيه «قداس الأحد»، وتجاور الإخوان والسلفيون والمسلمون العاديون والمسيحيون بمختلف توجهاتهم السياسية وميولهم النفسية، ثم انصهر الجميع فى تجربة مصرية عظيمة تمثلت فى ثورة ٢٥ يناير، وتحت ظلال وطنية واحدة، وراية متوحدة ترفع شعارا يقول من دون مواربة: «الشعب يريد إسقاط النظام».
وظنى أن هذه التجربة علمت أتباع المسارات الدينية، الدعوى منها والسياسى، درسا بليغا، من الصعب أن تأتى عليه الأيام بسهولة. فالإخوان المسلمون كان أداؤهم قبل ثورة يناير لا يخلو من غرور، حين يقارنون بين وضعهم كجماعة ضاربة بجذورها فى التربة المصرية ولديها قدرات مادية وتنظيمية وأيديولوجية كبيرة وظاهرة، وأحزاب سياسية ضعيفة ومتهالكة ومتهافتة على السلطة وقانعة بالفتات المتاح الذى تقدمه لها. لكن الإخوان اكتشفوا فى أتون الثورة أنهم قطرة فى بئر، أو قلة فى كثرة. وأن القوة الكبيرة التى بوسعها أن تحقق الدفع الهادر نحو التغيير هى قوة الجماهير العريضة حين تتلاحم. وفى الوقت ذاته عرف الجمهور المصرى العام أن الإخوان بوسعهم أن يندمجوا تحت راية مشروع وطنى سريعا، فقد تماثلوا مع الناس فى كل الميادين المصرية، التى شهدت الاحتجاجات، ولم يتمايزوا عن أحد، ولعبوا دورا ملموسا فى نقل الثورة من الـ«فيس بوك» إلى «الناس بوك» أسرع مما تصور نظام مبارك، ودافعوا باستماتة عن ميدان التحرير فى وجه «البلطجية» والأمن السرى، وساهموا بقوة فى تنظيم حركة الدخول إليه والخروج منه. فى الوقت نفسه ساهمت مشاركة المسيحيين فى إضفاء طابع وطنى على ثورتنا العظيمة، ودحضت الدعاية التى أطلقها النظام وادعت أن الإخوان المسلمين يقفون وراء الثورة، ويسعون من خلالها إلى القفز على السلطة.
ورغم مشاركة جماعات شتى من «السلفيين» إلى جانب الإخوان فى الثورة المصرية، فقد غاب رفع الشعارات وطرح الرموز الدينية، وطغت الروح والتعبيرات الوطنية، ووجدنا شبابا ملتحين جلابيبهم قصيرة يصدحون بالغناء الوطنى مع غيرهم من الشباب المصرى، ووجدنا فتيات سافرات يشبكن أيديهن مع منتقبات ومحجبات. وكان كلما أخطأ أحد المنتمين إلى التيار الإسلامى وهتف هتافا دينيا وجد من يزجره بلطف، أو تم تجنيبه دون استجابة له، بينما يصرخ آخر بهتاف وطنى عام، يعبر عن مطالب الثورة، فيتعالى خلفه هتاف هادر لا يُسمع سواه.
فى الوقت نفسه أدرك المسيحيون أن نيل الحقوق لا يتم بالطاعة العمياء لرجال الكنيسة المتحالفين مع السلطة، ولا بالتظاهر داخل أسوار الكاتدرائية، إنما بالانخراط وسط التيارالمصرى العريض المطالب بالتغيير. وقبل ذلك كان جل المسيحيين المصريين لا يدركون هذا الأمر، ولا يلتفتون طويلا إلى النداءات التى تطالبهم بحل مشكلاتهم على أرضية وطنية، أما بعد الثورة فقد تغير الأمر إلى حد كبير، لاسيما بعد أن أدرك الإخوان المسلمون وغيرهم من الجماعات الدينية أهمية مشاركة المسيحيين فى تفنيد الادعاءات، التى أطلقها النظام ليخيف الغرب من الثورة، وسوّق فيها لكذبة تقول إن الإخوان هم من يقفون وراء اندلاعها، وأدرك المسيحيون أن المسلمين غير مسؤولين عن أى أذى لحق بكنائسهم من قبل، فرغم تغيب الأمن تماما عن الشارع بعد ثلاثة أيام من اندلاع الثورة لم يلق أحد حجرا واحدا على كنيسة، بل وقف المسلمون والمسيحيون معا يدافعون عن منازلهم فى ظلمة الليل ضمن اللجان الشعبية، التى شكلها المواطنون ليعوضوا هروب الشرطة واختفاءها.
فيا محمد وحنا، فوتا معا ودون تردد كل فرصة أمام الطابور الخامس ومدبرى «الثورة المضادة»، الذين يسعون الآن لإحياء الجدال الطائفى الممقوت، الذى داسه الثائرون تحت أقدامهم فى كل ميادين مدننا الرائعة، كما داسوا إرادة السلطة، التى شاءت لعقود أن تجعل ملفى المسيحيين والإخوان المسلمين بيد الأمن وليس بيد الناس ولا الساسة. ولتعلم يا محمد ويا حنا أن ثورتنا لم تكتمل بعد فإياكما إياكما أن تتفرقا أو تغرقا فى التفاصيل، التى تسكنها كل شياطين الأرض.
[/center]